صراخه المكتوم

لقد ضاقت به الحياة و تلاشى الأمل من كنفه، ينظر الى طفله الرضيع و لا يستطيع أن يرسم له أي مستقبل؛ فهو لا يملك شىء ليعطيه له و لا ملكا ليورثه، بل أنه لا يملك حتى قوت يومه،الطفل يرضع من أمه الأن التى صارت تشبه أحد المومياوات التى شاهدهم مرة على تلفاز القهوة، نفس القهوة التى لم يدخلها لأكثر من سنتين، فهو لا يملك حتى بضع جنيهات ليشرب كوب من الشاى، و صارت المشروبات و السكر أحدى الرفاهيات؛ أكله اليومى هو نصف رغيف بلدى "أبو شلن" للأفطار ومثله للغذاء، و فى بعض الأيام يأخذ ما تبقى من خضار فاسد من التى ترميها أحدى المطاعم أمام بيته و يعطيها لزوجته، فتسلقها فى بعض الماء و يكون ذلك الطبق المصاحب لنصف الرغيف؛ يطغى طعم الخضار الفاسد و لكنه لا يمانع فلا يوجد بديل. يسكن فى غرفة مهترئة فى بناية لم تعد قابلة للإيواء، و لا يسكن أحد غيره و زوجته فى البناية ، تشتد بهم الحرارة فى الصيف و لكن الحر الشديد أرحم من برودة الشتاء التى لا ترحم؛ دائما ما يقضى شهر الشتاء كله يرجف من البرد الذى يتخلل عظمه ؛ يلملم ورق جرائد من مقلب القمامة الذى يبعد بضعة خطوات من بيته، هناك يلاقى الكلاب الضالة التى غالبا ما تكون مسعورة، فى أحد الأيام وهو يلملم ورق الجرائد هاجمه كلب ضال لكنه تمكن من قتله بالعصى التى كانت فى يده ، تكرر ذلك المشهد كثيرا، يتذكر أول مرة قتل فيها كلب ضال، أصابه الأحباط فهو كان يحب الحيوانات كثيرا و دائما ما كان يلعب معهم فى صغره فى بيت العائلة التى كان يشتغل به أباه و هو من بعده و لكن تدنت الأوضاع فى السنوات السابقة و أضطرت العائلة أن تهاجر الى بلاد الغرب و بقى هو بلا وظيفة، يتذكر عندما ذهب الى واحد من تلك اللأسواق التى يتسوق بها الأغنياء؛ لاحظ كم أن كل شىء يلمع ، و كم كان نظيف، لا يطغى عليه رائحة الروث و القمامة و ينمتع بالدفىء؛ ذهب لأنه سمع أن السوبرماركت هناك يريد أن يعين مسؤولى ممرات، هؤلاء الذين يرصون البضاعة؛ دخل مكتب المدير الخاص بالتعيين، يتذكر نظرته جيدا؛ كلها إشمئزاز و نفور، أبتسم له و لكن ظلت نظرة القرف على وجهه؛

"أفندم؟" 
"عايز أقدم على وظيفة مسؤول ممر هنا فى السوبرماركت يا باشا"
"معاك شهادة؟"
"لا بس بعرف أقرا و أكتب و أعد و بتعلم بسرعة"
"مش هينفع لازم يبقى معاك شهادة"
"طب جربنى يا باشا من غير مرتب و لو عجبتك أبقى وظفنى"
"هو شغل عيال؟أتفضل بره"
تكرر ذلك المشهد أيضا ؛ فكل مكان يذهب اليه يطلب أن يكون معه شهادة حتى يوظفه،لا يوجد ثمة بصيص من الأمل، كل يوم تضيق به الدنيا أكثر فأكثر، ينظر مرة أخرى الى طفله الرضيع و يتمنى أنه لم يأتى الى تلك الدنيا الظالمة، عملت زوجته لفترة فى تنظيف البيوت و لكنها سرقت فى أحدى الأيام لعبة من أحد البيوت، وجدتها فى ركن من أركان المكتبة، مهملة لا يلعب بها أحد، و ظلت لمدة أشهر فى هذا الوضع؛ أخذتها رغم ضميرها الذى ظل ينهيها عن ذلك و لكنها لم تستطع المقاومة ، ووعدت نفسها ألا تكررها مرة أخرى، و لكنها أتت فى اليوم التالى الى البيت لتجد الأمن يمنعها من الدخول؛ لقد صورتها كاميرا المراقبة و هى تأخذ اللعبة و أصحاب البيت لم يعدوا يأتمنوها، حاولت أن ترجع اللعبة و لكنهم رفضوا ، ترقد اللعبة فى ركن من أركان الغرفة المهترئة تنتظر الطفل فى سكون حتى يكبر، و لكن تتسائل أن كانت سوف ترى أبنها شابا أبدا

لم يعد ينام و لكن فى بعض الأحيان يغم عليه من قلة الأكل و لكنه دائما ما يستعيد وعية بعد بضعة دقائق، قرر فى أحد الأيام أن يقدم على تصريح كشك، فوجد أن الموضوع محاط بالقوانين و القواعد المعجزة و أهم شىء أي يتوسط له أحد المسؤولين و هذا غير المصاريف المطلوبة و الهدايا التى يجب أن يقدمها و التصاريح التى يجب أن يأخذها و لكنه أستطاع أن يقرض بعد المال من أقرباه و وأستطاع أن يقدم كل الهدايا المطلوبة و المستندات الواجب عليه تقديمها و قالوا له
 "تعال تفقد حالتك بعد كام أسبوع"

ذهب بعدها بشهر فوجد أن الطلب مرفوض و لا يوجد سبب لذلك، خرج من المبنى ليجد بعض التجمعات ،بعض الشباب يحتفلون بتحرر تونس، حكى له واحد منهم القصة بأكملها، الشاب الذى حرق نفسةه و العصيان المدنى و تدخل الجيش و ألخ ألخ

و لكن  الشىء الوحيد الذى ظل يضوى بداخله هو الشاب اللذى حرق نفسه، فقد تسبب فى قيام ثورة شعبية ، واحد فقط غير بلده و لكنه ضحى بنفسه، و لكن الأنتحار حرام ، و لكن لابد أنه لم يجد حل أخر، ينظر الى الورقة التى يحملها و عليها رفض طلبه، تقول أنه يستطيع أن يقدم مرة أخرى بعد بضعة أشهر ، يدخل يده فى جيبه و يجد عشرين قرش فقط، يذهب الى بيته و يعطى زوجته العشرين قرشا ، يقبل ولده و يحمله لفترة وجيزة ثم يترك المنزل و لكنه يذهب الى أحد محلات البقالة و يسرق عبو تين من السبرتو و علبة كبريت ثم يقفز على أحد الأوتبيسات المتجهة الى وسط البلد و يتشبث بها حتى وصل وجهته ؛ مجلس الشعب و الذى لم يعد للشعب و لكنه يخدم أفراد أخرين، ينظر اليه و يعلو وجهه نظرة من اليأس الشديد ، تنحدر بعض الدموع من على وجهه و ترتجف يديه بشدة، يفرغ عبوتين السبرتو فى أحدى الحاويات التى وجدها فى القمامة ثم يلقيها على نفسة ، يتحقق من أن السبرتو قد غطى جسدة كله ثم يشعل أحد أعواد الكبريت و تنتشر النار بيده ثم جسدة ، يصرخ من الألم فينتبه الناس الى وجوده ، و يصوره البعض و يحاول أن يساعده البعض الأخر، أخيرا قد سمع أحدا صراخه المكتوم

الأحداث غير حقيقية* 

Comments

Ibraheem said…
leh ya Sina keda? :(

-ibhog
very true story

Popular Posts