الزمن الجميل

طالما كنت غير راضية عن ما يحدث فى تلك البلد ،طالما نظرت اليها بنظرة أستنكار و رفض، أتذكر من حين الى أخر الأحوال فى الماضى عندما كنت طفلة و تأخذنى أمى معها لقضاء المشاوير فى وسط البلد كيف كانت القاهرة نظيفة و سكانها لطفاء، يدعابوننى أثناء شراء أمى لطلباتها و هى تلقى نظرة على من حين الى أخر لتتأكد أنى بخير، كانت أمى معروفة فى بعض المحلات بالأسم و كانوا ينتظرون مجيئتها و يعملون على مساعدتها حتى تشترى ما تريد و هى سعيدة و لم تكن تلك المحلات من المحلات الكبرى التى عندها كثير من الفروع و لكن المحلات الصغيرة المصرية التى تتفرد بالصناعات المصرية الجميلة و التى كان يخطئ البعض فى ظنه أنها مستوردة, كانت أمى عادة لديها قائمة بطلباتها و أخرى بمتطلبات جدتى , كانت جدتى تحب أشياء خاصة جدا و التى من الصعب أن تتواجد بكثرة فى السوق و لذلك كانت أمى تأخذ تاكسى فى الصباح الباكر من بيتنا الى وسط البلد و تأخذنى معها حتى لا أزعج جدتى،حيث أن أخواتى كانوا فى المدرسة و كانت أمى توعدنى بكوب من الأيس كريم حتى أجد شىء أتطلع أليه غير المشى فى ذلك الجو الحار، كانت أمى دائما تنزل من التاكسى عند أول شارع قصر النيل و من هناك نتمشى و نتفرع الى الشوارع الأخرى و كانت عادة تأخذ من ثلاث الى أربع ساعات لقضاء جميع طلباتها و أنا فى تلك الأثناء طفلة لا تريد شىء غير كوب الأيس كريم الذى وعدت به من عند بائع صغير أشتهر بالأيس كريم و سندويتشات السجق التى تعشقها أختى الكبرى و كان ذلك المحل صغير جدا و كان أقرب الى كشك من محل أو نستطيع أن نطلق عليه أسم بائع جائل فلم يكن عنده مكان للجلوس و كانت المساحة الموجودة أمام الثلاجة و قلاية السجق لا تتعدى المتران و كان دائما مزدحم و لكنى أتذكر تنحى الرجال عن الطريق عندما تريد أمى أن تطلب الأيس كريم و كانوا يتنحون بأدب و أبتسامة و يساعدونها على توصيل طلبها الى الرجل المختص أذا أبتلع الشارع صوتها الرقيق و رغم الأزدحام فهم لا يزاحمون أمى و ينتظرون حتى تأخذ كوب الأيس كريم و تدفع الحساب و تذهب فى طريقها حتى يأخذوا أماكنهم فى الصف مرة أخرى و تعطينى أمى كوب الأيس كريم فأكلة بسعادة مفرطة و تركيز تام فى أثتاء محاولات أمى فى أيجاد تاكسى العودة ولم تكن تأخذ وقتا كثيرا لأيجاد تاكسى راضى أن يأخذنا الى المنزل ، فأتذكر أنى دائما ما أكون قد أكلت ملعقة واحدة من الأيس كريم حتى تأخذه أمى مرة أخرى حتى أستطيع أن أركب التاكسى ثم تعطينى الكوب فى الداخل و يكون كل همى و أحاسيسى منصبة على هذا الكنز اللذيذ الذى ينسينى الحر الشديد و أرجلى المتعبة و ذراعى الذى تعب من أمساكة فى يد أمى بأحكام لتلك الفترة الطويلة حتى لا أضل الطريق ، كان كوب الأيس كريم ملاذى و دليل على أنتهاء يوم متعب و لكنى أتذكر أيضا أننا كنا لا نأخذ وقتا طويلا لنصل الى المنزل ، فلم يكن هناك أزدحام خانق أو حوادث مريعة على الطريق و كانت الرحلة الى منزل تأخذ أقل من عشرة دقائق و أتذكر ذلك لأنى لم أكن قد أنتهيت من كوب الأيس كريم بعد و كان لازال لدى ملعقة أو أثنين لأكلهم فكان الأيس كريم ينتهى بمجرد وصولى الى المنزل و بعد ذلك تأتى مرحلة عرض ما أشتريناه على جدتى، كانت هى تجلس على الكرسى الوثير فى الصالة و الأكياس تحاوطها و قد وضعت نظارتها الطبية حتى تستطيع أن تتمعن فى المشتروات جيدا و أمى تعرض عليها الأشياء و تحكى لها عن البدائل الأخرى التى رفضتها لأنها لم تكن ذات الجودة المطلوبة و فى تلك الأثناء أجلس و أشاهد جدتى و أمى و هن يتبادلان أطراف الحديث فى أثناء معاينة المشتروات، فتحكى جدتى عن جودة الأشياءعندما كانت صغيرة و كيف كانت زهيدة الثمن و فى بعض الأحيان يتذكرن بضائع معينة قد أعجبتهم فى بيت واحدة من الأصدقاء أو الأقارب و بعد الأنتهاء من معاينة المشتروات، يأتى وقد شاى الظهيرة مع البسكويت الدسم الذى يشتهر به الصعيد و يكون غاليا مخبوز بالزبدة الشهية و كان رغم دسمه، خفيف الوزن و ممكن أن يتفتت فى أى وقت و فى بعض الأحيان كانت تسمح لى أمى بشرب كوب من الشاى معهم، فتصب لى مقدار صغير جدا من الشاى و كنت أخذ البسكويت و أسقطه فى الشاى , دائما كنت أترك البسكويت لفترة طويلة فى كوب الشاى فيتفتت من الحرارة و الرطوبة و يبقى فى قاع الكوب فلا أستطيع شرب الشاى و لا أسقاط البسكويت لأن أمى كانت تسمح لى بواحدة أو أثنان فقط، فأترك كوب الشاى بحسرة و أذهب للعب بهاتف جدتى القديم، كان هاتف أسود ثقيل الوزن و كانت السماعة على الطراز القديم و الذى يتميز بأنه أطول من المعتاد و يوجد قطعة زائدة متصلة بالسماعة التى تنقل الصوت و ربما كان ذلك لتضخيم الصوت و لكن أكثر شىء كنت أعشقه بذلك الهاتف هو قرص الأرقام و الصوت الذى يحدثة عندما أديره فى أثناء تظاهرى بعمل مكالمة هاتفية و كنت أحب أن أديره الى النهاية حتى يصدر ذلك الصوت لأطول فترة ممكنة و أتذكر أنه كان هناك مراّه أمام الهاتف و كنت أنظر الى تلك المراّة باستمرار أثناء لعبى بالهاتف و كانت جدتى تنزعج من صوت الهاتف فتطلب منى التوقف عن اللعب به و أنا أطيعها كما علمتنى أمى رغم خيبة الأمل التى تصيبنى و أذكر أن دائما ما كانت نافذة الصالون مفتوحة ، فلم نكن نقلق من تلوث أو سحابة سوداء أو عادم سيارات أو روائح غير محببة و لا حتى الضوضاء التى تسببها المطاعم و النوادى و الأماكن التى تطلق عليها أسم "ثقافية" و هى فى الأصل أماكن لجنى الأموال ، كانت الأحوال لاتزال هادئة ، فكان بأستطاعتنا أن نسمع صوت خطوات عمتى و هى فى مدخل العمارة أو صوت أوتوبيس المدرسة عندما يوصل أخوتى أمام المنزل أو صوت عربة أبى وهو يركن فى جراج العمارة و نميز تلك الأصوات جيدا ثم يأتى الليل و ما يجلب من هواء عليل رغم كوننا فى فصل الصيف و كانت تتجمع العائلة فى الليل فيأتى جميع عماتنا و أعمامنا لقضاء بعض الوقت مع جدتى أثناء الأستمتاع بالجو اللطيف و العشاء الخفيف و كان الوقت مثلما يقول البعض "فيه بركة" فبالرغم أن موعد نومى كان فى تمام الساعة الثامنة و الذى يعتبر وقت مبكر ألا و أنى كنت دائما أشعر أن اليوم طويل جدا ، نعم كانت تلك هى الأحوال فى طفولتى و قد لا أتذكر كل الأحداث و لكنى أتذكر أن كان هناك أمل فى مستقبل أفضل و كانت الناس أكثر هدوء و راحة و الشوارع تتميز بالنظافة و الكتابات أرقى و مصر أقوى و الصناعة أفضل و التجارة المصرية لاتزال موجودة . نعم، لقد كانت تلك مصر فى طفولتى المبكرة و بالرغم ذلك أتذكر كيف كان الناس يقولون ، لقد أختفى الزمن الجميل

Comments

Anonymous said…
that was soothing ..
Anonymous said…
That was beautiful!
I like how u remember the small details, it looks so vivid while reading.
Anonymous said…
Such a lovely story, a bright image full of details and it puts you in the right mood for the day.... cant wait for the next story:)
Sina said…
Thanks Ibhog, you always seem to know what to say to make me happy :D
Good to see you out and about in the blogosphere

@redamaged: Welcome to my blog, glad you liked it. I really started to remember the details when I began to write the post.
I love that u describe it as "vivid", thank you :D
Sina said…
@doniazad: I always wait for you to stop by and share your opinion.
I am so glad that something I wrote helped put you in the right mood, hopefully my future writings as well.
Thanks again :D
Anonymous said…
That was beautiful! I could taste the ice cream and see your grandma's house. Was a nice stroll down memory lane. I could almost see the baby Sina!
Sina said…
Thanks Juka :D

Popular Posts